من أبرز المواقف التعليميَّة التي ترجمتها السيرة النبويَّة في وقائع عاشها الرسول (صلى الله عليه وسلم) "التخيير في الطلاق"، ورغم أنَّ الطلاق بيد الزوج، لكن لا يجب أن يستخدمه بشكل تعسفي، ويفُضل أن يُخير الزوجة عندما يتخذ مثل هذا القرار لأنَّه يخص حياتهما معًا.
أجمع الأئمة الأربعة على أنَّه لا يجوز للرجل أن يطلق امرأته بدون سبب، فالأصل في الطلاق المنع ما عدا المالكيَّة فإنَّهم قالوا: خلاف الأولى، ثم إنَّ الشافعيَّة والحنابلة قالوا: مكروه، وظاهر عبارات الحنفيَّة تفيد كراهة التحريم، وعلى هذا فلا يحل للزوج أن يطلق زوجته إلا لحاجة تقتضي الطلاق؛ وذلك لأنَّ الطلاق يقطع عقد الزواج وقد شرعه الله لضرورة التناسل الذي لابد منه لبقاء العمران إلى الأجل الذي أراده الله وقضاه، فخلق من أجل ذلك الزوجين وجعل بينهما مودة ورحمة، فطلاق الزوجة من غير سبب كفران لنعمة الله، فضلًا عما فيه من أذى يلحق الزوجة وأولادها إن كان لها أولاد.
فما يفعله البعض من تطليق زوجاتهم بدون سبب لا يقره الدين الإسلاميّ ولا يرضاه، ولا يبرر جنايتهم على زوجاتهم وأبنائهم الضعاف، لأنَّ العدوان على الزوجة المخلصة بدون سبب يجعله حرامًا لا مباحًا. إنَّ العلاقة الزوجيَّة لها من التقديس والاحترام فوق هذا، هي أساس بناء العمران وسبب وجود الإنسان. لولا ما أوجده الله من الرحمة والمودة بين الزوجين، وأودعه في قلبيهما من العطف الذي يدفع كل واحد إلى التعلق بالآخر لما وجد النوع الإنسانيّ.
ويعلمنا الله -عز وجل-من خلال السنَّة النبويَّة كيف نترجم معاني المعروف بين الزوجين عند الطلاق، واتفقت الروايات على أنَّ تخيير النبي (صلى الله عليه وسلم) أزواجه بين تطليقهن وإبقائهن على عصمته على الوجه الذي يريده منهن وهو أن يكنّ قدوة صالحة للنساء في الدين، وكيف يتعامل الزوج في مثل هذه المواقف. وهذه الواقعة كانت بعد إلحاف نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) بطلب التوسعة في النفقة، وقد كان (صلى الله عليه وسلم) يعيش حياة شظف في بيته. ففي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما دخل إلى بيت النبي بكى، (فقال رسول الله ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ قلت ومالي لا أبكي وهذا الحصير قد أثَّر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الأنهار والثمار، وأنت رسول الله وصفوته.. فقال له النبي: إن أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا). وعند هذه الواقعة نزلت آية التخيير ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا، وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الأحزاب: 28-29)
في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما نزلت آية التخيير (بدأ بعائشة فقال: يا عائشة إنِّي أريد أن أعرض عليك أمرًا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك. قالت وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، قال لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إنَّ الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا، ثم خيَّرهن كلّهن فاخترن ما هو خير لهن.. اخترن الله ورسوله والدار الآخرة).
ونتفق في هذا مع الرأي الوارد في تفسير القرطبي، يقول: حين عرض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مثل على زوجاته تسريح جميل لا مشاحنةَ فيه ولا خصومةَ إنْ اخترْنَهُ بأنفسهن، وما كان رسول الله ليمسك زوجة اختارتْ عليه أمرًا آخر مهما كان. وللعلماء كلام طويل في هذه المسألة هل يقع الطلاق بهذا التخيير؟ قالوا التخيير لَوْنٌ من حب المفارقة الذي يعطي للمرأة - كما نقول مثلًا العِصْمَة في يدها - فهي إذن تختار لنفسها، فإنْ قَبِلت الخيار الأول وقع الطلاق، وإن اختارت الآخر فَبِها ونعمتْ، وانتهتْ المسألة.
نختتم هذا المحور عن الطلاق بالمعروف، بقصة من الأثر، قيل "طلق رجل امرأته فلما أرادت الارتحال، قال لها اسمعي وليسمع من حضر إنِّي والله اعتمدتك برغبة، وعاشرتك بمحبة، ولم أجد منك زلة، ولم يدخلني عنك ملة، ولكن القضاء كان غالبًا. فقالت المرأة جزيت من صاحب ومصحوب خيرًا، فما استقللت خيرك، ولا شكوت ضيرك، ولا تمنيت غيرك، ولا أجد لك في الرجال شبيهًا، وليس لقضاء الله مدفع ولا من حكمة علينا ممنع"
.....
#سوسن_الشريف
"منظومة الطلاق بالمعروف في اللسان القرآني"
من كتاب "تجديد الخطاب الأخلاقي من منظور قرآني"