لو قمنا بعمل حصر بالممارسات الاجتماعية المؤذية للنساء في الأسرة التي كان عرب ما قبل الاسلام يرتكبونها والتي أنزل القرآن أحكاماً ليمنعها تماما أو يغيّرها أو يعدّلها، وجمعنا الأوامر والنواهي الأخلاقية/السلوكية ذات الصلة ورصدنا أهدافها وعلاقتها بهذه التشريعات، وربطنا كل ذلك ببعضه، نجد خطابا شاملا يخضع لمنطق واحد ورسالة إلهية تعلّمنا الآتي: هذه وسائل لتحقيق غاية إنصاف النساء وتمكينهن من حقوق تضمن الكرامة والإرادة الحرة والعدل والمساواة الانسانية. مثلا:
- تحريم الامتناع عن العلاقة الزوجية الجنسية من قبل الزوج كعقاب (الإيلاء والظهار)
- تحريم الامتناع عن النفقات المستحقة للنساء في مراحل مختلفة من الزواج والطلاق
- تحريم "عضل" أو ’وقف حال‘ أو حرمان النساء من حرية الإرادة والاختيار
- تحريم الإكراه على البغاء لإستغلالهن جنسيا وماديا
- تحريم الاستيلاء على أموالهن وإرثهن (خاصة الأرامل واليتامى)
- النهي عن إخراجهن من بيوتهن فترة عدة الطلاق
- الأمر بالاستشارة في شؤون الرضاع والفطام
لا أعتقد أن المقصود من"اضربوهن" هو أمر إلى الأزواج بضرب زوجاتهم لأي سبب أو تحت أي ظروف أوفي أي سياق زمني أو إجتماعي. وهذه أسبابي:
1- لم يرد في القرآن الكريم كله من أوله إلى آخره – وليس من منطقه – أمر بالعنف الفردي، يعني شخص يوقع عقوبة جسدية على شخص آخر بناء على قراره وحكمه الشخصي المنفرد. فتشريعات الحدود المعروفة متوجهة الى الجماعة (المجتمع ومؤسساته فيما بعد)، ولها شروط وخطوات محددة مثل الشهود والأدلة البيّنة، يعني إجراء قانوني قضائي. (إذاً الضرب في آية 34 أمر قضائي وليس مخاطبة إلى الأزواج بشكل فردي).
2- تنص آيات 15 و16 من نفس السورة على عقوبات جسدية على كل من الرجال والنساء الذين يرتكبون "الفاحشة" والمطلوب أربعة شهود، يعني إجراء قانوني له صفة العلنية (مثل آيات "اللِعان" في حالة الاتهام بالزنا: سورة النور،6-9)، و "النشوز" في آية 34 على مستوى"الفاحشة" وليس مجرد عدم طاعة الزوج. إذاً ليست المسألة ممارسة للعنف المنزلي الفردي ولكن عقوبة من المؤسسة القضائية عند ثبوت جريمة الخيانة’المُبَيّنة‘ أي الظاهرة، يعني إجراء يماثل حد الزنا مثلا.
3- بما إن توصية القرآن بالنسبة "لنشوز" الزوج في آية 128هو الإتفاق على صلح ما أو ترتيبات معينة مناسبة لظروف الطرفين – يعني حل مختلف – إذاً نستنتج أن معنى "نشوز" هنا في 34 مختلف أيضا، خاصة أن الآية حدّدت الأول أنه "إعراض" فقط.
4- وبالإضافة الى الصلح المقترح في 128، يبين القرآن وسائل أخرى للقضاء على "الشقاق" بين الزوجين وهو استدعاء أفراد من الأسرتين للتصالح المتوازن. هذا إجراء عائلي سلمي ولا يتسق مع الأمر السابق – فَرَضاً –بالضرب!
5- لم يضرب الرسول عليه الصلاة والسلام أي من زوجاته رغم المشكلات معهن بل وغضبه منهن وهجر بيوتهن لفترة. كما إعترض على عزم أبوبكر ضرب ابنته عائشة عندما حدث شجار بينهما. حتى ذِكر "الضرب" في خطبة الوداع كان مرهونا مرة أخرى بالفاحشة فقط: "أن لا يوطئن فرشكم غيركم."
6- لماذا إذاً فسر العلماء والفقهاء الآية بأنها أمر مباشر الى الزوج بالضرب (بالرغم من محاولات التأويل والتخفيف مثل استخدام طرف المنديل أوالمسواك..الخ.)؟ لأن العنف تجاه النساء كان من طبيعة الأشياء وجزء من علاقة القوةغير المتكافئة بين النساء والرجال وجزء من الممارسات الاجتماعية المبررة في الأزمنة السابقة والثقافات والمجتمعات الذكورية المختلفة في العالم أجمع – وليس فقط الجزيرة العربية. فقرأوا وفهموا الآية ليس في سياقها القرآني ولكن بطريقة فيها إستمراء لهذا السلوك وترسيخ للعنف السائد بالفعل، بدلا من تطبيق مراد الخطاب الالهي وهو تغيير الممارسات السيئة وترشيد أو تنظيم فوضى العنف – حتى في أمور القصاص – عن طريق تأسيس إجراءات وخطوات محددة تتم بشكل جماعي ومبنية على شهود وأدلة عيان ظاهرة، فلا يوجد قصاص أو عقوبة داخل المنازل بين الجدران وبعيد عن أعين المجتمع.
وفي النهاية أتذكر جملة د. مصطفى محمود المقتبسة من الإمام الشافعي:"آمنتُ بكلمات الله على مراد الله، وما خفِيَ عني فالله به أعلم."