النوع الاجتماعي :المفهوم الحائر في المنطقة العربية ومحاولة للتبسيط

بقلم
هند مصطفى علي
تعريب
هند مصطفى علي

النوع الاجتماعي :
المفهوم الحائر في المنطقة العربية ومحاولة للتبسيط
إعداد /د.هند مصطفى
كاتبة متخصصة في دراسات المرأة
 
رغم اتساع مجال استخدامه، يظل مفهوم النوع الاجتماعي Gender من أشدالمفاهيم التباسا في الواقع العربي، ورغم تسلله إلى أروقة حكومية وأوراق سياساتيةواستراتيجية تستهدف الواقع المباشر، يظل معناه غائما لدى الكثيرين.
ربما يكمن الوجه الأهم من أوجه اللبس في مفهوم النوعالاجتماعي، في أن مستخدميه اعتادوا أن يبدأوا الحديث عنه من خلال التمييز بينهوبين مفهوم الجنس sex. عمليةالمقارنة في حد ذاتها تحيل الذهن إلى منطقة بعيدة نسبيا عن بيئة مفهوم النوعالاجتماعي ونشأته ومدلوله.
يتحيز مفهوم الجنس في العلوم الطبيعية وتحديدا علمالأحياء، ومن داخله علم وظائف الأعضاء أو الفسيولوجيا الذي يمكن تأصيلهرجوعًا إلى ما قبل عام 420 قبل الميلاد في فترة العالم أبقراط  (أبو الطب)،وإذ يعبر مفهوم (الجنس) عن السمات المحددة بيولوجيا والمكتسبة وراثيا للذكر والأنثى، فهو يشير إلى دلالة مادية بالأساس.
بعيدا عن هذا الحقل الدلالي تماما يتحيز مفهوم النوعالاجتماعي، فهو مفهوم ثقافي/اجتماعي نشأ حديثا في ميدان العلوم الاجتماعية. ونشأللتعبير عن: الخصائصوالأدوار و(المكانة) والفرص الاقتصاديةوالاجتماعية والسياسية والثقافية المرتبطة بكون المرء رجلا أو امرأة يعيش/تعيش في مجتمع ما.  
وقد طور الباحثون الاجتماعيون هذا المفهوم للتعبير عنظاهرة  ملحوظة قوامها: اختلاف الأدوار/المسئولياتالمنوطة بالذكر والأنثى، والتي تشكل صورة الرجولة وصورة الأنوثة،  اختلافها بين الثقافات وداخل الثقافة الواحدةعبر الزمن.
ويمكن تأصيل نشأة نظرية النوع الاجتماعي رجوعًا إلىالجماعة الأكاديمية في الولايات المتحدة وبريطانيا خلال السبعينيات والثمانينيات والتيافترضت أن هناك صفات مكتسبة وخاضعة للتبادل هي التي تشكل الذكورة والأنوثة عبرالتاريخ وتؤثر في حياة الرجال والنساء.
 
تطورت نظرية  النوع الاجتماعي عبر تراكم  علمي من روافد مختلفة من العلوم الاجتماعية:
من علم الأنثروبولوجي:  كانت عالمةالانثربولوجي الأمريكية مارجريت ميد Margaret Mead (1901-1978) قد ناقشت )أدوار الجنسين( في أبحاثها المنشورة في العشرينات والثلاثينات. حيث قالت إنه في بعض المجتمعات يقوم الرجالبمهام قد يطلق عليها الغربيون "أنثوية" والعكس بالعكس. وهي بهذا كانت تقريبا أول من فتحطريقا للباحثين لإعادة تقييم السلوكيات التيتبدو ثابتة للرجال والنساء .
كانت ميد قد درست ثقافات متباينة في أصولها وتجاربهاالاجتماعية وأعرافها وتقاليدها، وتوصلت عبر تنقيبها وتحليلها في هذه الثقافات إلىأن «طبيعة الإنسان طوعية»؛ وهذا معناه عندها أن خصائص الذكر والأنثى تعكس ظروفالمجتمع وثقافته، وليست الظروف البيولوجية، على خلاف ما تقول به بعض وجهات النظرالأنثروبولوجية المغرقة في تشددها للعامل البيولوجي.
 
من الفلسفة والأدب: وصفت الفيلسوفة والروائيةالفرنسية سيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir (1908 – 1986 ) في كتابها الذي صدر عام 1949 بعنوان"الجنس الآخر" ما أسمته  "صنع" الأنوثة. قالت دي بوفوار إن النظريات الماركسية والفرويديةوالأنثروبولوجية قامت بتحديد سلوك المرأة.وأن النساء، على عكس الرجال، يتصرفن وفقًالرأي الرجال تجاههن، وأن هوية المرأة ليستطبيعية وانما مشكَّلة.
 رأت دوبوفوار أنّ "كينونة" المرأة اليوم هي شيء مصطنع اجتماعيا، وفي غالب الأحيان تماصطناعه من قبل الذكور، من خلال توقعاتهم وافتراضاتهم. وأشارتإلى أنه لا يوجد طريقة يجب على المرأة أن تكون عليها، ولا توجد صورة محدّدة مسبقةللأنوثة، ولا شكلاً مثاليّاً على المرأة أن تتطابقه. فمُتَوقَّع من المرأة مثلا أنتسعى وراء الجمال وأن تعمل على جذب الرجال وأن تكون سلبية في سلوكها الاجتماعي العام.
 وقد فتحتهذه الأفكار بدورها الباب أمام الباحثين للتفكير في ثنائية الطبيعة والدور.
 
وبالعودة إلى الانثروبولوجي :كان المفكرالفرنسي كلودليفي شتراوس Claude Lévi-Strauss (1908-2009) قد طور النظرية البنيوية. ووفقا لهذه النظرية،يعيش الناس في المجتمعات ضمن أطر فكرية تشكلشبكات للسلوك اليومي. تتألف هذه الأُطُر من ثنائيات متعارضة مثل الطهارة والنجاسة،الزواج والعزوبة، المقدس والمدنس، والمذكر والمؤنث. وهذه الثنائيات تتفاعل فيما بينها وتشكل علاقات.
 فتح هذا التصور المجال للنظر الى الذكورةوالانوثة كبناء وعلاقات.
 
وبحلول عام 1980 كانت عبارة "البناء الاجتماعيللجنس" شائعة بين علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع وبعض علماء النفس.
وحتى ذلك الحين كان المكان الرسمي للمفهوم هو الأروقةالأكاديمية والبحثية بالأساس. وقد ارتبط ارتباطا كبيرا بنشأة وتطور الدراساتالنسوية ودراسات المرأة منذ مطبع سبيعينات القرن العشرين. وارتبط أيديولوجيابالتحليلات التي استخدمته والتي تنوعت تنوعًا كبيرا  بدءا من نموذج "التفكيرالأمومي" الذي ينسب للمرأة  نمطًا خاصا بها في ادراك العالم لكونها أنثى، وبين  التفكير الراديكالي الذي يعتبر أن النوع الاجتماعي،لا يرتبط بالذكورة ولا الانوثة بمعناها التشريحي، إنما هو كأي هوية أخرى، يتخلقعبر الممارسات الخطابية.
ثم حدث تمدد كبير للمفهوم من حيز الأكاديميا إلى الحيزالسياسي، وتحديدا الخطاب الدولي الرسمي الذي تطرحه الأمم المتحدة والمنظماتوالهيئات التابعة لها . حدث هذا التمدد -الذي جعل المفهوم الرائج أكاديميا،مفهومًا متداولا في السياق السياسي الرسمي- عبر الخبراء والباحثين الذين يجمعونبين الصفة الأكاديمية وبين العمل كخبراء في المنظومة الأممية ويقومون بمهمة صياغةالوثائق الدولية.
منذ ذلك الحين بدا أن المفهوم خرج من العباءة الأكاديميةليدخل المجال المهني والمؤسسي ويندرج ضمن مجموعة من السياسات والبرامج  وخطط العمل.
وقد تبنت الأمم المتحدة المفهوم بشكل مبسط دون خلفياتهالأيديولوجية والأكاديمية. فصار يشير فحسب إلى: الأدوار الاجتماعية للنساء والرجالوالتي تتحدد وفقا لثقافة مجتمع ما على أنها الأدوار والمسئوليات والسلوكيات والقيمالمناسبة لكل من الرجل والمرأة.
وظهر المصطلح لأول مرة في وثيقة مؤتمرالقاهرة للسكان عام 1994 ، ثم ظهر مجدداوعلى نطاق أوسع في منهاج عمل بكين 1995.
وقدأقر مؤتمر بكين مفهوم "تعميم المنظور الجنساني Gendermainstreaming الذي بات منذ ذلك الحين نهجاً أساسياً يُنص عليه وعلى الالتزام بهفي أي استراتيجية أو سياسة أو برنامج عمل تكون الأمم المتحدة طرفاً فيه.
واليوم،يشير مفهوم النوع الاجتماعي في الاستخدام العام إلى الأدوارالاجتماعية للنساء والرجال والتي تتحدد وفقا لثقافة مجتمع ما على أنها الأدواروالمسئوليات والسلوكيات والقيم المناسبة لكل من الرجل والمرأة. ترتبط هذه الأدواربالتنشئة الاجتماعية التي تحدد أدوار وسلوكيات كل من المرأة والرجل. وكذلك تختلفهذه الأدوار من مجتمع إلى آخر ومن طبقة اجتماعية واقتصادية إلى أخرى كما تتغير منزمن إلى آخر. ويمكننا على سبيل التوضيح أن نذكر على سبيل المثال البسيط جدا نمطالزي المقبول به للرجل والمرأة في مجتمعات بعينها (التنورة القصيرة للرجل فياسكتلندة ، زي النساء المكشوف من أعلى في بعض القبائل الافريقية، ألوان ملابسالطفل الذكر والطفلة الأنثى).
ويستخدم مصطلح (علاقات النوع الاجتماعي  Gender Relations) لوصف كيفية توزيع الموارد والامتيازات بين المرأة والرجل فيالمجتمع وعلاقات القوة بين الرجل والمرأة في المجتمع. من الأمثلة البسيطة جدا التيتقرب ذلك للذهن (مدى قدرة المرأة الريفية في بعض الدول على الحصول على ميراثهاالشرعي في الأرض، الحرية المتاحة لكل من الأخ والأخت في الأسرة الواحدة، قدرةالزوجة/الأم على المبادرة واتخاذ القرار داخل العائلة وعلاقتها مع الزوج ومدى اختلافذلك اذا كانت المرأة عاملة أو لها دخل مستقل).
 
ويستخدم مصطلح الصور النمطية ذات الصلة بالنوع الاجتماعيGenderStereotypes
للتعبير عن الأفكار الشائعة في المجتمع حول الذكورة والأنوثة، من حيث ما ينبغي أن يكون عليه الرجال والنساء من جميعالأجيال وما هم قادرون على فعله. ومن أمثلة الأفكار النمطية : يجب أن تكون الفتيات مطيعات ولطيفات،ويُسمح لهن بالبكاء، فيما يتوقعأن يكون الأولاد شجعانا لايبكون، والنساء أفضل في الأعمال المنزلية،والرجال أفضل في التعامل معالآلات، أو أن الأولاد أفضل في الرياضيات والفتيات أكثر ملاءمة للتمريض..الخ
 
كذلكيشيع استخدام مفهوم العنف القائم على النوع الاجتماعي Gender-Based Violence للتعبير عنموقف يكون فيه الشخص هدفا للعنف بسبب جنسه أو جنسها، وكذلك عندما يرتبط بعلاقات القوة غير المتكافئة بينالرجل والمرأة.
وتتعدد الأمثلة على ذلك بدءا من تعرض المرأة للعنف داخلالأسرة نتيجة لموقعها المستضعف في العائلة. وانتهاءا بما تتعرض له المرأة فيالحروب حيث تستهدف بشكل خاص لتركيع ارادة الخصم أو لجعها تحمل سفاحا من أبناءالعدو أو لاستخدامها كرقيق جنسي.
وفي أروقة العمل، في الحكومات أو المجتمع المدني، تشيععبارة إدماج النوع الاجتماعي في السياسات أو تقييم المشروع من منظور النوع الاجتماعي .
يشير إدماج النوع الاجتماعي أو مراعاة النوع الاجتماعي سواءفيالسياسات والاستراتيجيات التنموية أو في البرامج والمشروعات، يشير إلى عملية متكاملة تبدأ من الحرص على التعرف علىالأدوار المنوطة بكل من المرأة والرجل والتي تحددها البيئة الثقافية/الاجتماعيةالمحيطة ويرتبط بهذا جمع وتحليل البيانات المصنفة حسب الجنس وغيرها منالمعلومات النوعية والكمية، وتنظيموتحليل هذه المعلومات لتيسير البناء عليها عند صياغة السياسات التنموية. ثم، وبناء على هذه المعرفة تتم إتاحة الفرصة المتكافئةللمرأة والرجل وتمكينهما لاكتشاف واستغلال الطاقات الكامنة في كل منهما وتشجيعهماللقيام بأدوار جديدة.
وعندما يخضع مشروع أو برنامج ما لتقييم من منظورالاجتماعي فإن هذا يعني: دراسة كيف يتعامل هذا البرنامج أو المشروعمع أوجه التفاوت وعدم المساواة النوعية ، أي كيف يستجيبلها من خلال أهدافه وأنشطته وسياساته. بحيث يجيبهذا التقييم علىسؤالين رئيسيين: كيفستؤثر الأدوار والأوضاع المختلفة للنساء والرجال، سواء،داخل المجتمع والفضاء السياسي ومكان العمل والأسرة على العمل الذي يقوم المشروع/ البرنامج على تنفيذه، وكيف ستؤثر النتائج المتوقعة للعمل بشكلمختلف على النساء والرجال.
***